Tunisia - د. نوح الهرموزي - 05/16/2021 12:42
تقديم:
"الحرية لشعب تونس العظيم، بن علي هرب...بن علي الكلب، ما عادش تخافوا هزوا روسكم، معادش تخافوا من حد، تحررنا ...الشعب التونسي حرّ". تلك كلمات دوت قويا، في يناير 2011، بصوت المحامي التونسي عبد الناصر العويني وهو يبشر الشعب التونسي بهروب الرئيس زين العابدين بن علي متجها من تونس الى منفاه في السعودية. فغمرت حينئذ نشوة الانتصار الشارع التونسي بعد سقوط رأس نظام اتسم بالاستبداد والبطش الممنهج والعبث بمقدرات البلاد والعباد، وسرق ثرواتها بمعية زوجته ليلى الطرابلسي وشرذمة من زبانية وأذناب النظام المتنفذة اقتصاديا وسياسيا. اندلع عقب ثورة الشعب التونسي ما اصطلح عليه ب "الربيع العربي" والذي عصف بأنظمة في العالم العربي (مصر، السودان، الجزائر)، أو هز ورج بعنف كيان أنظمة مثل (البحرين، المغرب، العراق، ولبنان) أو أشعل نيران الحرب الداخلية والعنف الأعمى (سوريا ليبيا، اليمن).
بعد عشر سنوات من المخاضات العربية تؤكد التقارير بالإجماع أن الوضع السياسي والاقتصادي في تونس ودول "الربيع العربي" صار أكثر ترديا من ذي قبل. وانتاب شعور بالإحباط والانتكاس جسورا عريضة من الشارع التونسي والعربي كما يعبر عن ذلك الإعلامي المعروف وأستاذ التاريخ السياسي، الدكتور عادل بن يوسف، قائلا: "بقطع النظر عما حصل من أحداث وتطورات على المشهد السياسي فإن الحصيلة للأسف كانت ولا تزال لغاية اليوم سلبية. هناك زيادة في البطالة وارتفاع نسبة الفقر مع توسع الهجرة السرية وخاصة الشباب من اختصاصيين ومهندسين وأطباء وخبراء. لم يتحقق لا الشغل ولا الحرية ولا الكرامة الوطنية، عدا حرية الإعلام. نحن أمام عودة للوراء وأحلام الشباب قضي عليها".
ونحن نعيش ذكرى عشرية ثورة تونس الخضراء ونستحضر فيها صدى صرخات (بن علي هرب)، من المنطقي طرح الأسئلة التي تراود الشباب التونسي والعربي برمته:
هل كان ما جرى حلما جميلا عشناه في شتاء 2011، لينقلب المشهد، إلى حالة نقول فيها: ليت ما جرى قبل عشر أعوام ما كان، و يا ليت الأوضاع بقيت على سابق حالها؟
كيف انتكست الثورات في المنطقة العربية وما هي عوامل الكبح والفرملة التي منعت الانتقال من اقتصاد احتكاري رعوي الى اقتصاد ديناميكي منتج وممارسات سياسية اندماجية ديمقراطية؟
هل قلب النظام وقطع رأس كفيل بتغير المنظومة برمتها وخلق ديناميكية سياسية واقتصادية حميدة؟
ما هي العوامل والديناميكيات المفسرة لأفول وصعود الأمم اقتصاديا وسياسيا؟
أسئلة، تراود الشباب العربي، يتوجب الإجابة عليها ليس بدافع اختلاق تفاؤل كالذي عشناه، ولا الخنوع و الخضوع لظرف اللحظة وضغطها و السقوط في التشاؤمية و العدمية.
قراءة في أسباب التخلف والازدهار: المؤسسات أو القواعد المجتمعية.
إن النظريات الاقتصادية المتراكمة منذ الخمسين سنة الماضية لم تستطع بلورة جواب واضح ونهائي لإشكالية وأسباب تطور وتخلف الأمم. ولكن للإنصاف العلمي يوجب الاشارة والتذكير بأن بعض هذه النظريات تمكنت من تفسير جزء من مظاهر، وسمات وأسباب التخلف، وأنها استطاعت تسليط بعض الضوء على عراقيل حقيقية واجهتها بعض الدول النامية في بعض الفترات. لكن هاته النظريات لم تقدم تفسيرات مقنعة وصلبة يمكن تعميمها لتفسير معضلة التخلف الاقتصادي.
فعندئذ يبقى لغز التطور مفتوحا ويبقى السؤال عن العوامل المفسرة والمسببة لتطور أو تخلف الأمم مطروحا.
إن أحد نقائص هذه النظريات (التي ساهمت بدون أدنى شك في تحقيق تراكم علمي مهم وتسليط الضوء على مشكلة الفقر والتخلف) هو أنها لم تعر الاهتمام الكافي أو همشت دور: قوام الدولة، أو ما يصطلح عليه اقتصاديا "بالمؤسسات".
إن دعاة هذه النظريات المؤسساتية يؤكدون على الدور الجوهري الذي تلعبه المؤسسات ويفسرون أنه لا يمكن سبر أغوار التطور دون التركيز على قوام الدولة أي: مؤسساتها. إن المقولة المأثورة "ما بني على باطل فهو باطل" تعكس بجلاء فكرة الاقتصاديين المؤسساتيين. فهم يوضحون أن بدون مؤسسات أو قوام متينة فسيكون كل البناء الاقتصادي لدولة ما هشا وآيلا للانهيار إذا كانت أسس الدولة وركائزها ومؤسساتها غير متينة وغير صلبة. وكل محاولة لإخراج الدول الفقيرة من التخلف (و حتى بعد إسقاط رأس النظام) ترى فرص نجاحها ضعيفة إذا لم تجد اجابة واضحة على الأسئلة التالية:
· هل توجد محفزات تحث الأشخاص على العمل والاجتهاد والابتكار؟
· هل يستفيد المرء من نتائج كده وتعبه أم أنه يتم الاستحواذ عليه جزئيا أو كليا من طرف الجماعات النافذة؟
· بمعنى آخر هل حقوق وحريات ملكيات الأفراد محفوظة وهل توجد مؤسسات فعالة ونزيهة للدفاع عنها؟
· هل القيم المجتمعية والأعراف والأنماط الفكرية تروج لثقافة التبادل والتسامح والحرية وتحث على العمل والانفتاح أم على العكس من هذا تعرقل أو تصعب التعاملات أو ما يصطلح عليه اقتصاديا ب"رفع تكاليف المعاملات"؟
يمكن تلخيص الفكر المؤسساتي كالتالي: إنه من الالزامي الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الدول والدور الحاسم التي يلعبه المؤسسات (الرسمية وغير الرسمية) في كل مقاربة تحليلية للآليات المسببة للركود الاقتصادي.
فما المقصود بمصطلح المؤسسات وما هو دورها وعلاقتها بالأداء الاقتصادي؟
يُعرف أحد كبار المحللين المؤسساتيين دوغلاس نورث 1991 المؤسسات على أنها: الاكراهات التي تؤطر أو تقنن أو تحدد التفاعلات والتعاملات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتتضمن:
· اكراهات غير رسمية (غير مكتوبة) أي العقوبات الاجتماعية، المحظورات والطابوهات، العادات والتقاليد، الأعراف والقيم المجتمعية. فهي الحواضن والمرجعيات الفكرية التي ينهل منها الفرد والجماعة مواقفهم السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية. وهي منتشرة بين الأفراد والجماعات بشكل لا يمكنهم من الإفلات منها.
· اكراهات رسمية، اكراهات وقوانين رسمية القوانين والدساتير والعقود المكتوبة وحقوق الملكية.
فهذه المؤسسات ماهي الا "قواعد اللعبة" التي تحدد الاختيارات الممكنة والحوافز المتوفرة وبالتالي تؤثر على تكاليف المعاملات (رونالد كوز 1960) ثم امكانية الحصول على الأرباح وجدوى القيام بعمليات تجارية أو اقتصادية (نورث 1991).
بعبارة أخرى يمكن تشبيه المؤسسات (الرسمية والغير الرسمية) بقواعد اللعبة المعمول بها من طرف مجموعة من اللاعبيٍن. وهي بمثابة البنى والهياكل التي يصنعها الانسان بهدف ضبط شبكة العلاقات داخل الدولة والمجتمع. وتبرز المؤسسات من رغبة الأفراد في خفض المخاطر التي تعترض بحثهم عن تحقيق مصالحهم وإلى الحاجة إلى خفض كلفة التعامل بينهم. ففي مجتمع يتوفر على قواعد محدَدَة يستطيع الأفراد الانخراط في تصرفات وممارسات تمكنهم من تعظيم منفعتهم بأقل كلفة ممكنة.
والقواعد نوعان: القواعد المكتوبة والقواعد العرفية غير المكتوبة. فالقواعد (بشقيها) الموضوعة والمتفق عليها من طرف اللاعبين هي التي تحدد سلوك هؤلاء اللاعبين وما يمكنهم وما يجب عليهم/ وما لا يمكنهم و ما لا يجب عليهم فعله. اذن فنتيجة اللعبة ماهي الا نتاج لتفاعل اللاعبين المؤطرين بقواعد اللعبة (المكتوبة والعرفية).
إذا أسقطنا هذا المثال على الميدان الاقتصادي نجد أن قواعد اللعبة ماهي الا المؤسسات الرسمية والغير رسمية التي تنظم الأنشطة الاقتصادية (ما يجب ويجوز/ ما لا يجب وما لا يجوز فعله) وأما اللاعبين فيمثلون الجماعات البشريةً التي تتألف من رجال الأعمال والجمعيات والأحزاب والتنظيمات والأفراد .... وما النتائج الاقتصادية سوى انعكاس لتفاعل هذه الجماعات البشرية داخل إطار منظم بقواعد اللعبة الرسمية وغير الرسمية.
يذكر المؤسساتيين بأن السياسات والاستراتيجيات المقترحة لتطوير الدول النامية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات هذه الدول وهياكلها وعدم إهمال قواعد اللعبة المعمول بها داخلها. فهي تُشكل الأرضية والقاعدة التي تحدد نجاح أو فشل السياسات الاقتصادية. فإذا كانت هذه القاعدة المؤسساتية أو الأرضية غير ملائمة أو غير متينة فإنها ستؤثر لامحالة سلبا على الناتج الاقتصادي والديناميكية المجتمعية ولن ينفع معها تغير رأس النظام.
إن اعادة القراءة في نظريات التنمية الاقتصادية على ضوء التحليلات المؤسساتية تمكننا من فهم أسباب فشل الانعتاق من براثن الفقر والاستبداد. فاذا كانت قواعد اللعبة (المؤسسات الرسمية وغير الرسمية) رديئة أو خبيثة ولا تحث على:
· احترام حقوق الملكية والمنافسة الشريفة
· استقلالية القضاء والسلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية
· احترام الالتزامات والعقود وتكافؤ الفرص
فإنها ستودي لا محال الى استفحال الرشوة والنهب والغش والريع والتكاسل والتواكل والتخلف الاقتصادي في المحصلة.
أما المؤسسات الحميدة التي تشجع الأفراد على الابتكار والتعلم وتحمل المخاطر والادخار والاستثمار المنتج وتضمن قدرا من تكافؤ الفرص بما في ذلك المساواة أمام القانون فهي الكفيلة بتحقيق الازدهار اقتصادي. ومنه فإن المصفوفة المؤسساتية (Institutionnel matrix) الحميدة هي المدخل الرئيس لمواجهة العنف الاجتماعي المتجذر ورافعة أساسية من أجل ارساء أعمدة الارتقاء الاقتصادي والسياسي.
وفي نفس السياق، حاول الاقتصاديان المشهوران أسيموجلو وروبنسون تقديم زاوية قراءة في كتابهما المشهور: لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار والفقر.
يوضح الكاتبان إلى أنّ الرخاء الاقتصادي يعتمد قبل كل شيء على رحابة المؤسسات الاقتصادية والسياسية. و يميزان بين نوعين من المؤسسات:
1. المؤسسات ال"اندماجية" inclusive عندما يساهم ويشارك الأفراد في صنع القرار السياسي، على خلاف الحالات التي تسيطر فيها مجموعة صغيرة و أقلية نافدة على الممارسات والمؤسسات السياسية. ويرى الكاتبان أن الدولة الديمقراطية التعددية الفاعلة تضمن سيادة القانون، ويعتقدان بأن المؤسسات الاندماجية تعزز الازدهار الاقتصادي لأنها توفر حافزاً يمكن المواهب والأفكار الإبداعية من التفتق والانطلاق.
2. المؤسسات "الاستنزافية" extractive التي تُركِز السلطة بيد فئة صغيرة نافدة مستحوذة ومحتكرة الفرص لصالحها على حساب مصلحة أغلبية المجتمع. فالأمم التي يتسم تاريخها بسيادة المؤسسات الاستنزافية لم تزدهر أبداً؛ لأن الافراد وحملة المشاريع المنتجة لم يكن لديهم الحافز للاستثمار والابتكار. ذلك أن النخب الحاكمة تخشى من "التدمير الخلّاق" -كما وصفه الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر-، الذي يعرّف بأنه عملية اقصاء مؤسسات قديمة خبيثة ليتم تعويضها بمؤسسات جديدة حميدة؛ التدمير الخلّاق يخلق مجموعات جديدة تتنافس على السلطة ضد النخب الحاكمة.