A V E R R O E S
افتتاحيات

الجمود المؤسساتي

Morocco - د. نوح الهرموزي - 05/14/2021 07:07

كيفية تغيير المؤسسات؟

1. التغيير المؤسساتي المُفتعل أو الارادي:

يعتبر هذا المنظور التغيير المؤسساتي بمثابة عملية ارادية اختيارية مركزية يتم من خلالها تحديد القواعد صراحة من قبل كيان سياسي محدد ومنظم. حيث يُقَدِرُ الفرد أو المنظمة او الكيان التكاليف والفوائد المتوقعة من التغيير المؤسساتي. وإذا توفرت لهذا الكيان أسباب القوة والعتبة اللازمة لخلخة القواعد و لإحداث التغيير، فيمكنه حينئذ إحداث تغيير مؤسساتي. يتم ذلك عبر انخراط الأفراد والمنظمات في مفاوضات أو أحيانا في تدافعات أو تجاذبات جماعية تفضي الى تبني مؤسسات الطرف الرابح كليا او جزئيا.

2. النظريات التطورية للتغيير المؤسساتي/ التغيير التلقائي:

يمكن للتغيرات أن تنشأ من خلال عملية تطورية تلقائية ناتجة عن نُضجِ معارف الأفراد أو محاكاتهم اللاإرادية لمؤسسات أجنبية. فتظهر قواعد وأنماط سلوك جديدة من الخيارات غير المنسقة واللامركزية للعديد من الأفراد بدلاً من الاختيار الجماعي الارادي أو نتاج عمليات سياسية ارادية مُدبرة. كما يمكن للتغير المؤسساتي أن ينتج كمحصلة لتراكم تغيرات صغيرة عوض تغيير كبير.

في المحصلة، لا تأخذ في الحسبان النظريات التطورية دور العمل الجماعي والعملية السياسية، في حين أن النظريات التي تنظر إلى التغيير المؤسسي كنتيجة لعملية اختيار جماعي مركزية تجد صعوبة في تفسير التغييرات في القواعد غير الرسمية (مثل الأعراف الاجتماعية والعادات) التي تتطور بطريقة لامركزية.

فعلى الرغم من ادراكنا لديناميكية التغيير و دور المؤسسات الحميدة في ارتقاء المجمعات، يبقى سؤال التغيير المؤسساتي ومدى إمكانية تحقيقه مطروحا. 

مقاومة التغيير: هل تغير المؤسسات أمر سهل؟ 

لم تسلم عدد من الأنظمة عبر العصور من ظاهرة الجمــود المؤسساتــي أو كما يصطلح عليه آیزنســــتاد و شـــــبنغلر ب"انهيار التحديث" او "التفسـخ" بعبارة هنتنغتون لوصف ظـاهرة تعـد بمثابـة الاضمحلال السياسي decay political فــي بلــدان العــالم النامي وسبب انهيار الإمبراطورية العثمانية في منطقتنا العربية، وحتــى بعــض الــدول المتقدمة مثل اليابان وإيطاليا وألمانيا إبـان الثلـث الأول مـن القـرن العشرين. 

تتعدد العوامل التي تعمل باستمرار على تعطيل مسلسل التغيير المؤسساتي وانتقاء أو استجلاب المؤسسات الحميدة. 

تكلس المؤسسات أو تجمدها ينتج عـن رغبـة النخــب النافدة أو الحاكمــة أو المستفيدة فــي الإبقــاء علــى الأوضــاع الراهنة Status quo عبــر تبنیهــا لسياسات وتوجهــات تكرس نفوذها فتفرضــها علــى مجتمعاتهــا فرضــا وتقاوم تغييرها. فالمستفيدون من الوضع القائم وإدامة النظام يعملون بحرص وقوة على مقاومة وإحباط التغيير تحت حجة حماية النظام العام، وعادة ما يقوم هؤلاء باختلاق الأحداث كي يتم تعطيل إعادة ترتيب مكونات المصفوفة المؤسسية أو صناعة مؤسسات جديدة حميدة فيما يُعرف بالمقاومة المؤسساتية.

وكما يمكن تشبيه مقاومة التغيير المؤسساتية بديناميكية الطرد المركزي. حيث يتمثل نظام الطرد المركزي في قوة المؤسسات الراهنة على الصمود والبقاء نتيجة لتغريب وطرد المؤسسات الحميدة. فكلما حاول أفراد إدخال مؤسسات حميدة إلى توليفة المؤسسات السائدة الحاكمة، عملت قوة الجذب المركزية على سحبها إلى داخل المنظومة من أجل التجربة وسرعان ما تدفعها قوة الطرد المركزي خارج المنظومة الاجتماعية أو السياسية او الاقتصادية السائدة بسبب عدم توافقها مع المصالح الآنية للقوى الاقتصادية النافدة. فاحتمال ضياع السلطة السياسية يجعل النخبة النافدة تقيم كل تغير اقتصادي محتمل، ليس فقط وفقا لعواقبه الاقتصادية كآثاره على النمو الاقتصادي وتوزيع الدخل، ولكن أيضا وفقا لعواقبه السياسية. فالخوف من الخسارة الاقتصادية والسياسية وفقدان السلطة هو الذي يعيق تبني مؤسسات الحميدة ويكرس المؤسسات الخبيثة التي تشكل مصدر الدخل والامتيازات والاحتكارات.

وهناك علاقة عكسية بين التغير المؤسساتي ومرونة النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفرص السانحة والممكنة لإحداث تغييرات إيجابية في الوضع العام. فكلما زاد الجمود أصبح التغيير صعبا. ويجب الأخذ بعين الاعتبار عند كل مقاربة تغيرية للمؤسسات عاملين رئيسيين: حجم وطبيعة التغيير المنشود، والمدة الزمنية التي بقيت خلالها المؤسسات القائمة جامدة بدون تغيير.

إن الجمود المؤسساتي الناتج عن مقاومة التغيير في العالم العربي أفرز حالة من انتكـاس عملية التحديث وفقدان التكيف والمرونة المؤسساتية الضرورية لتحيق النمو والتنمية. ويتمظهر ذلك من خلال ترهل هياكل الدولة وبروز هيئات مركزية وتنفيذية وتشريعية وأحـزاب لـم یعـد بإمكانهـا أداء دوارهـا فـي التعبير عـن مصـالح الأغلبية وتنزيل سياسات تتفـق وهـذه الأغـراض. فانخرطت عدد من الدول العربية في سلسـلة طويلة من حلقات مفرغة من الركود السياسي وعدم الاستقرار والعنف. 

خاتمة:

لكل مجتمع هياكله المؤسسية الخاصة به والتي تولدت أو تطورت عبر الزمن. هياكل تشكل أسس ديناميكيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهي تؤثر بدورها إيجاباً أو سلباً على نشاط ورفاهة أفراد المجتمع. فالبعد المؤسساتي هو عامل حاسم في تفسير افول وصعود الأمم. والمقاربة المؤسساتية تحثنا على الغوص عميقا في دراسة عملية التغيير المجتمعي والتريث في التفاؤل، لأن إسقاط النظام يمكن أن يكون أمرا ضروريا ولكن حتما ليس كافيا لتحيق التقدم المنشود. فالتغيير الحقيقي والعميق والمستدام تغيير رهين بتوفر مجموعة من الشروط المؤسساتية (الثقافية والسياسية والاقتصادية) التي تَرفعُ القهر والاستبداد الأفقي والعمودي. تغيير يتأتى من خلال ضمان حقوق ملكية محمية بقواعد القانون، وإنفاذ غير متحيز للالتزامات القانونية من خلال فصل السلطات وتوازنها، قضاء مستقل، وقوانين وتشريعات تشجع المنافسة الشريفة، ومشاركة فعالة واندماجية لأفراد المجتمع في إدارة شئونه دون عوائق أو تمييز في إطار الشفافية وعدم المحاباة.